لماذا نقع في حب الأشخاص صعبي الوصول؟

 لماذا نقع في حب الأشخاص صعبي الوصول؟ علم النفس يكشف الأسباب الخفية

الحب مشاعر معقدة تحركها عوامل نفسية واجتماعية عميقة، ومن أكثر الظواهر إثارة للاهتمام هي انجذابنا نحو الأشخاص الذين يبدون صعبي الوصول، سواء كانوا غير متاحين عاطفياً، مترددين، أو حتى غير مهتمين بنا. فلماذا يحدث هذا؟ ولماذا نستمر في السعي وراء شخص يعطينا القليل بينما نتجاهل من يمنحنا الكثير؟

في هذا المقال، سنستعرض الأسباب النفسية والبيولوجية والاجتماعية التي تجعلنا ننجذب إلى الأشخاص صعبي الوصول، مستندين إلى نظريات علم النفس وأبحاث العلاقات العاطفية و كيف نتخلص من حب الأشخاص صعبي الوصول.

 تحدي الوصول والتلاعب بالمكافأة 

 تأثير "المكافأة المتقطعة"

في علم النفس السلوكي، يشير مفهوم المكافأة المتقطعة إلى الحالة التي يتم فيها تقديم التعزيز أو المكافأة بشكل غير منتظم، مما يعزز من تعلق الشخص بالسلوك أو المصدر الذي يوفر هذا التعزيز. عند تطبيق هذا المفهوم على العلاقات العاطفية، نجد أنه يفسر بشكل دقيق سبب التعلق القوي بالأشخاص غير المتاحين عاطفياً أو الذين يصعب الوصول إليهم. فعندما يكون الشريك أحيانًا محبًا ومهتماً، ثم ينسحب فجأة ويصبح باردًا أو غير مبالٍ، يدخل الطرف الآخر في حالة من الترقب والقلق، منتظرًا اللحظة التي يعود فيها الحبيب ليمنحه الاهتمام من جديد. هذا التذبذب العاطفي يحفز إفراز الدوبامين، وهو الهرمون المسؤول عن الشعور بالسعادة والرغبة، ولكن نظرًا لأن هذه المكافأة العاطفية تأتي بشكل غير منتظم، فإن تأثيرها يصبح أقوى، مما يؤدي إلى التعلق الشديد. فعلى سبيل المثال، إذا كان شخص ما يظهر اهتمامًا مكثفًا لمدة يومين، ثم يختفي تمامًا لأسبوع، فإن الطرف الآخر سيظل في حالة من الانتظار المستمر، متلهفًا لأي إشارة منه، مما يجعله أكثر ارتباطًا به رغم الألم الذي يسببه غيابه. هذه الديناميكية تجعل الشخص العالق في هذه الدوامة غير قادر على الانسحاب بسهولة، حيث يظل يأمل في الحصول على تلك اللحظات النادرة من الاهتمام التي أصبحت بالنسبة له مكافأة ثمينة.

 نظرية "التكلفة العالية"

تقوم نظرية التكلفة العالية على فكرة أن الإنسان يميل إلى المبالغة في تقدير قيمة الأشياء أو الأشخاص الذين يصعب الحصول عليهم، وذلك بسبب الجهد والتضحيات التي يبذلها في سبيل الوصول إليهم. وفقًا لمبدأ "التضحية تُعظِّم القيمة"، عندما نستثمر الكثير من الوقت والمشاعر في محاولة كسب ود شخص بارد عاطفيًا، أو نتحمل الانتظار الطويل والإحباطات المتكررة، فإننا نبدأ لا شعوريًا في تضخيم أهميته في أذهاننا. هذا يعود إلى ما يُعرف بـ تحيز التبرير الذاتي، حيث يسعى الدماغ إلى إيجاد معنى للمعاناة والجهد المبذول، حتى لا يشعر الشخص بأن كل تلك التضحيات ذهبت سدى. بالإضافة إلى ذلك، يلعب "فخ الاستثمار العاطفي" دورًا كبيرًا في تعزيز هذا التعلق، فكلما زاد الوقت والمشاعر التي نضعها في علاقة غير متوازنة، زاد تمسكنا بها، حتى وإن كانت تؤذينا أو لا تحقق لنا السعادة المرجوة. وهذا يشبه إلى حد كبير سلوك المستثمر الذي يرفض التخلي عن مشروع خاسر لمجرد أنه استثمر فيه الكثير، رغم أن الانسحاب قد يكون هو الخيار الأكثر حكمة. في العلاقات العاطفية، يؤدي هذا التحيز إلى استمرار التعلق بشخص غير مناسب، فقط لأن الانفصال عنه يعني الاعتراف بأن كل الجهد والعواطف التي بُذلت كانت بلا جدوى، وهو أمر يصعب تقبله نفسيًا.

 الإثبات الذاتي بالرغبة إلى كسب الحب و إصلاح  الوضع الحالي 

تنشأ الرغبة في الإثبات الذاتي لدى بعض الأشخاص من اعتقاد داخلي بأن الحب لا يكون حقيقيًا أو ذا قيمة إلا إذا تم "كسبه" بعد جهد وتحديات، مما يجعلهم ينجذبون إلى العلاقات العاطفية الصعبة والمعقدة. يرتبط هذا التفكير غالبًا بـ انخفاض تقدير الذات، حيث يظن الفرد أنه لا يستحق الحب بسهولة، بل يجب أن يثبت جدارته به من خلال السعي الدائم لإرضاء الطرف الآخر وكسب اهتمامه. كما أن هذا السلوك شائع لدى الأشخاص الذين يعانون من التعلق القلق، حيث يشعرون بعدم الأمان العاطفي ويبحثون باستمرار عن الطمأنينة من خلال الحصول على قبول الشخص الذي يبدو بعيد المنال، وكأن ذلك إثبات لقيمتهم الذاتية.

بالإضافة إلى ذلك، هناك رغبة لا واعية في إصلاح الوضع الحالي، حيث ينجذب بعض الأفراد إلى الشركاء الصعبين بدافع الشعور بأنهم قادرون على "إنقاذهم" أو تغيير حياتهم للأفضل. هذا يمنحهم إحساسًا قويًا بالمعنى والهدف، إذ يعتقدون أن نجاحهم في كسب حب هذا الشخص أو تغييره للأفضل سيعكس قيمتهم الشخصية ويمنحهم شعورًا بالإنجاز. هذه الديناميكية تجعل العلاقة وكأنها تحدٍ شخصي أكثر من كونها رابطة قائمة على التفاهم والتوازن العاطفي، مما قد يؤدي إلى الاستمرار في علاقة غير صحية فقط من أجل تحقيق هذا الهدف النفسي العميق.

العوامل النفسية العميقة  

وفقًا لنظرية تكرار أنماط الطفولة التي قدمها سيغموند فرويد، يميل بعض الأشخاص إلى الانجذاب إلى شركاء يشبهون شخصيات أثرت في طفولتهم، حتى لو كانت تلك العلاقات غير صحية. يحدث هذا بشكل لا واعٍ، حيث يسعى العقل إلى "إصلاح" الماضي عبر إعادة تمثيل نفس الديناميكية العاطفية، ولكن هذه المرة بأمل الحصول على نتيجة مختلفة كأن ينجح أخيرًا في كسب الحب الذي افتقده في الطفولة. ومع ذلك، يؤدي هذا النمط إلى الوقوع في دوامة من العلاقات غير المتوازنة، حيث يستمر الشخص في مطاردة قبول عاطفي صعب المنال، دون إدراك أن المشكلة الحقيقية تكمن في النمط المتكرر نفسه وليس في الشريك المختار.

من ناحية أخرى، يرتبط الخوف من العلاقة الحقيقية بعدم الاستعداد العاطفي للالتزام أو مواجهة المخاوف العميقة من الهجران. في هذه الحالة، يكون الشريك الصعب بمثابة حاجز نفسي، إذ تبقى العلاقة في حالة عدم استقرار، مما يمنع الشخص من الانخراط في علاقة عميقة وحقيقية تتطلب مواجهة مشاعره الحقيقية. فبدلًا من التعامل مع مخاوفه الداخلية من الارتباط أو الرفض، يجد نفسه ينجذب إلى شريك متقلب، مما يخلق وهم السعي وراء الحب، لكنه في الواقع يهرب من التقارب العاطفي الحقيقي. بهذه الطريقة، تبقى العلاقة في إطار المطاردة المستمرة، دون الوصول إلى مستوى من العلاقة الحقيقيةالتي قد تكشف عن نقاط ضعف الشخص ومخاوفه العميقة.

العوامل الاجتماعية والثقافية و تأثير المجتمع

تلعب العوامل الاجتماعية والثقافية دورًا كبيرًا في تشكيل طريقة فهمنا للحب والعلاقات، مما قد يدفع بعض الأشخاص إلى الانجذاب إلى الشركاء صعبي المنال. في العديد من المجتمعات، يتم تعزيز فكرة أن الحب الحقيقي يجب أن يكون مليئًا بالتحديات، وأن العلاقات التي تتطلب جهدًا ومعاناة هي الأكثر قيمة. هذه الصورة الرومانسية المثالية تُرسَّخ عبر الأفلام، والمسلسلات، والأدب، حيث يتم تصوير العلاقات العاطفية المعقدة والمليئة بالعقبات على أنها أكثر إثارة وإشباعًا من العلاقات المستقرة والمتوازنة. نتيجة لذلك، يتبنى البعض فكرة أن الحب لا يكون "حقيقيًا" إلا إذا كان صعب المنال أو يتطلب كفاحًا مستمرًا.

بالإضافة إلى ذلك، تلعب التوقعات الاجتماعية دورًا في هذه الظاهرة، خاصة في الثقافات التي تعزز فكرة أن على الشخص إثبات قيمته عبر كسب اهتمام الشريك. كما أن بعض الأعراف والتقاليد قد تعزز النمطية الجندرية التي تجعل التحدي والمطاردة جزءًا أساسيًا من العلاقات العاطفية، حيث يُشجَّع الرجال على ملاحقة النساء اللواتي لا يبدين اهتمامًا في البداية، بينما تُشجَّع النساء على تفضيل الرجل الغامض أو البعيد باعتباره "أكثر قيمة".

علاوة على ذلك، فإن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي عزَّز من هذه الفكرة، حيث أصبح البعض يربط الحب بالمشاعر القوية التي تثيرها العلاقات غير المستقرة، بدلًا من الاستقرار العاطفي والتفاهم المتبادل. فالانتظار الطويل للرد على رسالة، أو تقلبات الاهتمام والانسحاب، قد تُفسَّر على أنها جزء من لعبة الإغواء، مما يزيد من التعلق بالشريك غير المتاح بدلًا من الاعتراف بأن هذا السلوك قد يكون ببساطة علامة على عدم توافق العلاقة. في النهاية، تؤدي هذه العوامل إلى استمرار الكثيرين في الوقوع في حب الأشخاص الذين يصعب الوصول إليهم، لأنهم يربطون بين التحدي العاطفي وقيمة الحب، حتى وإن كان ذلك على حساب سعادتهم واستقرارهم النفسي.

كيف نتخلص من حب الأشخاص صعبي الوصول؟

التعلق بشخص غير متاح عاطفيًا قد يكون تجربة مؤلمة ومستنزفة نفسيًا، ولكن التحرر من هذا النمط ممكن من خلال الوعي الذاتي والعمل التدريجي على تغيير طريقة التفكير والسلوك. وفيما يلي بعض الخطوات الفعالة:

الاعتراف بالمشكلة وفهم أسباب التعلق

أول خطوة نحو التحرر هي إدراك أنك منجذب إلى شخص غير متاح عاطفيًا، وفهم الأسباب النفسية وراء ذلك. هل تبحث عن إثبات ذاتك؟ هل تحاول إعادة تمثيل تجربة من الطفولة؟ أم أن هناك خوفًا من العلاقة الحقيقية؟ كلما فهمت سبب ارتباطك بهذا الشخص، أصبح من الأسهل التعامل معه بشكل منطقي.

إعادة تقييم العلاقة بواقعية

بدلاً من التركيز على اللحظات القليلة التي يكون فيها الشريك متجاوبًا، حاول رؤية الصورة الكاملة. هل العلاقة تُشعِرك بالسعادة والاستقرار، أم أنها تسبب لك الألم والقلق؟ كتابة قائمة بالإيجابيات والسلبيات قد تساعد في إزالة التصورات المثالية التي تجعل الشخص يبدو أكثر جاذبية مما هو عليه في الواقع.

كسر دورة المكافأة المتقطعة

الحل هو التوقف عن انتظار الاهتمام المفاجئ من الشخص الصعب، والتركيز على العلاقات التي توفر استقرارًا حقيقيًا. قد يكون من المفيد تجنب المواقف التي تعيد إشعال المشاعر، مثل متابعة الشخص على وسائل التواصل الاجتماعي أو انتظار رسائله.

تعزيز تقدير الذات والاستقلال العاطفي

غالبًا ما ينبع التعلق بالأشخاص غير المتاحين من الشعور بعدم الاستحقاق. لذا، العمل على حب الذات والتذكير بأنك تستحق علاقة صحية ومتبادلة يمكن أن يكون له تأثير كبير. حاول الانخراط في أنشطة تمنحك الشعور بالإنجاز والفرح بعيدًا عن الاعتماد على شخص معين لتأكيد قيمتك.

تطوير علاقات صحية ومتوازنة

إعادة توجيه انتباهك نحو أشخاص يقدرونك ويمنحونك الاهتمام بانتظام، وليس فقط في لحظات متقطعة، يساعد على تغيير المعايير العاطفية لديك. قد يكون من الصعب في البداية الشعور بالإثارة في العلاقة المستقرة، لكن مع الوقت ستدرك أن الراحة والأمان العاطفيين أكثر قيمة من التحديات غير الضرورية.

طلب المساعدة إذا لزم الأمر

إذا كنت تجد صعوبة في التحرر من هذا النمط العاطفي رغم المحاولات، فقد يكون من المفيد التحدث مع معالج نفسي لمساعدتك في فهم أعمق لأنماط ارتباطك، وتعلم كيفية بناء علاقات أكثر صحة وسعادة.

ختامًا، من المهم أن ندرك أن التعلق بالأشخاص غير المتاحين ليس حبًا حقيقيًا، بل هو نمط نفسي يمكن تغييره. عندما نفهم الأسباب العميقة وراء هذا التعلق، ونعمل على كسر العادات العاطفية السلبية، ونبني تقديرًا صحيًا لذواتنا، نصبح قادرين على التحرر من هذه الدائرة المرهقة. العلاقات العاطفية يجب أن تكون مصدر سعادة وأمان، لا قلق وانتظار. فالحب الحقيقي لا يُقاس بالمطاردة أو الصراع، بل يأتي بشكل طبيعي، دون الحاجة إلى إثبات شيء. وكما قال إريك فروم: "الحب ليس لعبة صيد أو مطاردة، الحب الحقيقي يأتي بسلام، دون حاجة إلى إثبات أي شيء."

لذلك، اختر أن تمنح نفسك فرصة لعلاقة قائمة على التفاهم والاحترام المتبادل، علاقة لا تحتاج إلى أن تطاردها، بل تجدها في قلبك حين تكون مستعدًا لها فعلًا.


تعليقات